أرضنا

اتّصل بي أحد أصحاب مزارع الماشية طالباً استشارتي في قضيّة تحيّره منذ بضعة أشهر. قطيع الخراف لديه يبدو أقلّ نشاطاً وقد خفّ استهلاكه للعلف أيضاً وفي الوقت عينه هو لا يشكو من أي مرض أو سوء...
ورأساً بعد وصولي إلى المزرعة وإلقاء التّحيّة على الجدّ والحفيد جلست القرفصاء بين الخراف أراقبها محاولاً معرفة ما تشكو منه.


وتنامى إلى سمعي حديث قيم بين الجدّ وحفيده العشريني والذي كان يشكو من العيش والعمل في المزرعة إذ قال:
كنت أودّ العمل مع أصدقائي كمرافقي أحد الزّعماء السياسيين... فهو يغدق عليهم المال بينما نحن نشقى ونعمل ليلاً نهاراً للحصول على خبزنا كفاية يومنا... فالذّرة والصّويا وجميع المشتقّات العلفيّة قد ارتفعت أسعارها أكثر من 50% بينما أسعار بيع الحليب والألبان لا زالت هي هي بل تداعت عمّا كانت عليه... فإلى متى يا جدّي يمكننا العيش هكذا؟
منذ وفاة والدي وأنا أعمل هنا من الفجر للنجر وبالكاد نتمكّن من تغطية ثمن العلف، فبالله عليك يا جدّي قل لي ما العمل؟
فأنا ضائع هنا... لا أجيد العمل مع القطيع ربّما لأنني لا أحبّ ذلك ولا أريد أن أهاجر أيضاً إلى المجهول فإلى أين المفرّ؟

فأجابه الجدّ بنبرة الفلاسفة:
اسمع يا بني، أوّلاً أنت أصبحت في العشرين من عمرك وقادر على اتّخاذ قرارات حياتك بنفسك لكن هنالك ثوابت في هذه الدنيا لا يمكن أن نتخطّاها ولا بدّ من تذكيرك بقوانين الطّبيعة والحياة.
إذا أراد بعض أصدقاؤك جني المال السريع ذكرهم بالمثل القائل: "سريع النمو سريع الزّوال"
والغني لا يعيش إلّا بمال العمّال والفقراء... وبعمليّة حسابيّة بسيطة هو يأخذ ولا يعطي...
وهل يختلف لصوص اليوم عن لصوص الأمس؟ لا أعتقد ذلك.
بل لصوص اليوم أصبحوا أكثر علماً وتفنّناً و...سياسة...
ثمّ الجميع يشتكي من الكورونا اليوم وهل نسينا أمراض الأمس البعيد والقريب من الإنفلونزا الإسبانيّة إلى الكوفيد 19 مروراً بالسّلّ والبوليو والإيدز؟؟
يا بني هذه هي سنّة الحياة. هذه هي الطّبيعة التّي لها قوانينها...
إذا احترمتها أغدقت عليك الخيرات...
هذه الأرض التي ترعرتَ فيها والتي حضنتني طوال عمري. هي أهمّ ما أعطانا اللّه على الإطلاق... أعطها القليل تعطيك الكثير...
أعطها البذار تعطيك الغلّة...
صحيح أنّها اليوم لا تعطينا إلّا النّذير لكن كما يقول المثل: "يوم إلك، يوم عليك"
فهذه الأرض يا بني هي أرضنا وُلدنا وترعرعنا فيها وأطعمتنا وهي هنا بانتظار أن تضمّنا إليها...

وقد ساعدني الإستماع إلى هذا الحديث ربّما من معرفة ما كان يشكو منه القطيع. فتقدّمت من الشّاب وقلت له:
يا صديقي خرافك لا تشكوا من شيء ربما هي بحاجة إلى مزيد من العاطفة من قبلك.
فأجابني ساخراً: بالله عليك يا سيدي أتمازحني؟ قد يكون بعض الخراف على مقربة منّي أمّا ماذا عن بقيّة المئات بل الآلاف منها؟
فقلت النّاس مثلاً لا تعرف حكّامها لكنّها تتواصل فيما بينها ومن يعرفهم يُعرّف عنهم...كذلك الخراف. فهي أيضاً تتواصل مع بعضها البعض وكونك لا تتعاطف معها قد تخطئ في بعض الأعمال كوقت الإطعام مثلاً أو نسبة أو تركيبة الأعلاف أو حتّى كيفيّة تعاطيك مع القطيع...
لدى كلّ الأحياء على هذه الأرض روحها أيضاً... فالحيوانات، وخاصّة الحيوانات الدّاجنة، تشعر وتحبّ أو تألف الإنسان والطّبيعة كما يمكنها عكس ذلك فتنفر ممّا تعتقد أنّه قد يؤذيها...
هذه هي طبيعة الحياة فلنعطها حقّها لننعم بالحياة الطبيعيّة...

 

November 2024
S M T W T F S
27 28 29 30 31 1 2
3 4 5 6 7 8 9
10 11 12 13 14 15 16
17 18 19 20 21 22 23
24 25 26 27 28 29 30

4412 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع